لحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فهذا:
إعجاز الحجاج في القرآن الكريم..
إن الترجيح في قضية غيبية هو لوحده فوق مطمح العقل الإنساني، وإلا فما هذا الركام المتزايد من القضايا العالقة منذ فجر فكر الإنسان!
لكن آية واحدة من القرآن تحسم أخطر القضايا في...... ثمان كلمات!
فينتصب الإعجاز في بهاء مشهود:
-إعجاز في الفكرة.
-وإعجاز في العبارة.
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ }الطور35
1-الحصر منطقيا، والحذف بلاغيا:
تقتضي المنهجية السليمة في الحجاج حصر كل الفروض الممكنة -أو على الأقل
الملائمة -قبل الشروع في نقدها ونقضها واحدا واحدا ،فلا يبقي في نهاية
المطاف إلا الفرض الصحيح الذي سنركن إليه مطمئنين...ومنشأ هذا الاطمئنان
ثقتنا المنهجية من أننا لم نغادر فرضا إلا ذكرناه وفحصناه..فإذا صمد فرض
أمام النقد نكون أمام الفرض الصحيح والوحيد...فتطوى المسألة طيا.
إن الطريقة المثلى في الحصر هي طريقة القسمة الثنائية على محور الوجود والعدم، إذ لا واسطة بين الطرفين فيغفل عن فرض من الفروض..
وهذا ما انتهجته الآية في الاستدلال على مسألة الخلق:
-إما أن يكون للموجود سبب،
-وإما أن لا يكون له سبب.
ثم يأتي بعد ذلك تفريع الفرضية الموجبة ،إن كان له سبب فلا يخلو:
- إما أن يكون هذا السبب محايثا ،
-وإما أن يكون مفارقا.
لكن الآية لم تذكر من الفروض الثلاثة إلا اثنين:
الفرض العدمي" أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ"..
وعندما فرعت الفرض الوجودي اقتصرت على خيار :" أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ"
وطوت عن الذكر قسيم هذا الخيار وهو "شيء ما خلقهم"
فما دلالة هذا الحذف؟
أولا:توفير الوقت والجهد الذهني،
فتفحص الفرضيتين المذكورتين مع ظهور فسادهما كاف لبيان صلاحية الفرضية
الباقية المطوية حتى ولو لم تخضع للاختبار..فنوفر ثلث الوقت و الجهد...مثل
ذلك أن نقول:هذه ثلاث طرق واحدة منها فقط تؤدي إلى المسجد وطريقان
مسدودتان..فيكفي أن تختبر الطريقين المسدودتين لتخرج بنتيجة قطعية هي
إفضاء الطريق الثالثة إلى المسجد مع أنك لم تخط فيها خطوة واحدة..
ثانيا:حث العقل على التأمل الذاتي،
ففساد الفرضيتين المعروضتين عليه حافز له على أن يصوغ الفرضية الثالثة التي لا مناص منها.
والآية من هذه الجهة باهرة،فهي لم تجب وإنما سألت :
-في المرحلة الأولى طرحت السؤال وتركت الجواب للمسؤول...
-في المرحلة الثانية تركت له السؤال والجواب معا !!
ثالثا:غاية الإنصاف واجتناب أي تهمة..
لو ذكرت الآية الخيار الثالث لقيل إن هذا إيحاء بالجواب وتنبيه عليه، لا
سيما إذا كان مذكورا في الأخير، فيكون آخر ما يقرع الأذن، وآخر ما يعلق
بالذاكرة، ومن ثم يكون أقرب إلى الجريان على اللسان.
ومسألة الإيحاء بالجواب مشهورة جدا في فضاء حجاجي بامتياز ألا وهو فضاء
المحاكم..فكثيرا ما يعمد المحامي إلى تلقين موكله الجواب من خلال زرعه بين
مجموعة من البدائل واثقا من ذكاء المتهم ليدرك أن تلك البدائل تمويهية فقط
..ولذلك تجد المدعي العام يحتج بقولهم المشهور:"أعترض.. هذا تلقين للجواب"!
فجاءت الآية على أبلغ وجه من هذه الجهة...فالخيار الذي تريد أن يجري على
لسان المحاجج لم تذكره أصلا ..وتركت له أن يذكره لأنه لا مناص من ذكره أحب
أم كره.
2-الفكرة البديهية الواضحة التي لا يمكن دفعها...
"أم خلقوا من غير شيء"
فكرة استحالة وجود شيء بدون علة فكرة بسيطة أولية لا يمكن الشك فيها دون
أن نشك في العقل نفسه.. "أم خلقوا من غير شيء" أقوى من الكوجيتو الديكارتي
نفسه..فالطفل الصغير قد لا يعي جيدا الارتباط بين الفكر والوجود كما في
عبارة ديكارت...لكن لو صفع على قفاه لالتفت في لمح البصر إلى مصدر الصفعة
ليقينه بأن الصفعة لا يمكن أن تكون من غير شيء!!!
والعجب كل العجب من المجانين –الذين يسمونهم علماء-كيف يقدرون أن هذا
العالم نشأ بالصدفة، أي من غير شيء،مع أنهم يحيلون ويستهزؤون بما هو أقل
بكثير من إلحادهم..فلو قلت لهاسكلي أو راسل: يجوز أن نخرج من صندوق عود
ثقاب قارة في حجم أروبا..لسخر منك واتهمك بالجنون...مع أنه أولى بالجنون
والسخرية...لأن إخراجك قارة من صندوق صغير هو على كل حال إخراج شيء من شيء
أما هو فيزعم في العالم أنه أخرج من لا شيء!!
نفي العلية خروج عن العقل...أي تجويز لكل شيء...
ترى حديقة ثم تصبح في لمح البصر جبلا..جائز.
تشتري دفترا تقلب صفحاته فتجدها بيضاء ثم تتصفحها بعد ثانية فتجدها كلها مكتوبة..جائز.
تمد يدك لمصافحة صديقك فيصبح كرسيا ..جائز.
يلزم الملحد تجويز كل هذه الحالات..لأنه أصلا جوز ما هو أدهى وأعظم: خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ.
أما الفرضية الثانية فلا تقل حمقا عن أختها لأنها مبنية على تناقض واضح..
:"خلقت نفسي"
معناها أنا موجود ومعدوم في آن واحد...أو
كنت قبل نفسي..... أو
سقطت عيناي فرأيتهما مثل حبتي عنب على الأرض...
إن سقطت عيناك فبماذا رأيتهما يا لكع !!!
فانظر إلى حجاج القرآن كيف يجعلك تختار العقل أو الجنون!
لا ينجيك من الشناعة و السخرية إلا أن تختار ما لم تذكره الآية أصلا..
"شيء ما خلقك"
وإلا فهو الجنون المطبق..
لكن من هذا الشيء الذي خلقك؟
تلك قصة أخرى ....
أو لنقل هو ذلك الذي تكلم معك قبل قليل وقال لك:
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ }الطور35
ونرجو لك أن تكون قد شفيت من مرضك الأول فلم تعد تقول" كلام ولا متكلم به"!!!