حين ترك أبي دوار أيت ويران وتزوج بأمي التي أخرجتني الى العالم وقذفتني لألعب مع صغار دوار القصبة في أقا لم يكن يعلم ان اليونسكو ستصدر أطلسا للغات محذرا من انقراض الأمازيغية الويرانية ويدق ناقوس الخطر منبها الى ان قليل جدا من يتحدث اليوم هذه اللغة. وأنها مهددة في اي لحظة بالالتحاق بدوار ايت ويران في القبر. وأنا صغير كان والدي كلما زارنا شخص من ايت ويران يتحدث معه بهذه اللغة التي تميل الى الأمازيغية السوسية التي يتحدثها سكان أقا لكنها مختلفة عنها في أكثر من كلمة. كنت أشك في نوايا والدي وأنه يتامر مع ذلك الزائر ضدي والا لماذا يتحدثان بلغة لا أفهمها كثيرا وكانت شكوكي تتأكد أكثر حين اسمع ذلك الويراني وهو يشير الي وينطق بلفظ -أسلباي- التي فهمت انها تعني الاولاد والصغار منهم خاصة كما انه لو كان يريد اخذي معه الى هناك واعتقالي في واحة ايت ويران كي احرس نخل أبي واشجار النبق التي ورثناها عن أجدادنا.
لم يكن والدي وحده من تخلى عن واحته بل جاهر مثله عدد كبير من الورانيين وانتشروا في دواوير اقليم طاطا وتزوجوا من ويرانيات وأنجبوا صغارا أرغمهم اباؤهم على أكل الكسكس كل يوم كقدر محتوم. فقد كان الوجبة الرئيسية المفروضة والتي لا يمكن تغييرها الا ب-توكلوشن- وهي حليب مجفف مليء بالزغب والاوساخ نستورده من واحنتا ونلتهمه بشهية وكان بمثابة تنويع نلجأ اليه كلما أصابنا الضجر من الكسكس. ايت ويران الذين غادروا اقا وسكنوا في المدن الكبرى هم ايضا تخلوا عن لغتهم حتى انتبهت الى ذلك منظمة اليونسكو ولم يتخلوا عن حصتهم من السنوية من التمر التي تأتي بيوتهم في البيضاء وطنجة ومدن اخرى محملة في حافلات كما لو ان التمر لايباع في الاسواق.
المشكل في تحذير اليونسكو الذي نبهني الى أن لغة أجدادي مهددة بالانقراض يكمن في كوني كنت أعتقد أني عربي الأصل وأن اللغة التي أتحدثها ليست لغتي وأن جدي الأول هو (يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ ) وأنني من العرب العاربة الذين جاؤوا الى المغرب وسكنوا في اقا بعد ان طردوا اليهود حاملين معهم فساتل نخل نزعوها من تربة بغداد وصحراء الجزيرة العربية وما زاد في يقيني أن المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري يعود أصله الى اقليم طاطا مثلي ومدافع شرس عن القومية العربية وكتب عن العقل العربي ولم يفكر ولا مرة في مشروع يحلل فيه العقل الامازيغي الويراني الذي يولد يأكل الكسكس ويموت وهو يأكله ولم يسمه العقل الكسكسي انسجاما مع تقسيمه للعقل العربي الى برهاني وعرفاني وبياني. وبسبب استلابي الثقافي وتنكري للغتي الامازيغية شاركت وأنا تلميذ في مظاهرات تناصر القائد العروبي صدام حسين وحزب البعث وصرخت حتى بحت حنجرتي في ساحة المدرسة (( صدام يا بطل زيدنا في العطل)) كما تربيت في كنف اسرة من اخوة يحبون جمال عبد الناصر ويعلقون صوره في الغرف رغم انه ساند البوليزاريو ودعمهم في حربهم ضد اقا حتى تمكنوا من سلبنا قطعانا من المواشي كان يملكها جدي الذي لم يعرف العربية.
الان اشعر بلخبطة في ذهني وفي هويتي ولا أعرف حقيقة من انا وعندما اطلعت على اطلس اليونسكو حول اللغات المهددة بالانقراض زادت حيرتي حول من أكون وتأكدت بأن أيت ويران محتاجة الى من ينقذ لغتها وعلي ان انتقل في الحال الى هناك وأتخلى عن تجارتي المشكوك فيها وأنتقل الى أقا وأمارسها هناك نصرة مني للقضية الويرانية و للأمازيغية لغة أجدادي الذين لحظهم العاثر تركوا دزينة متنكرة لأصلها وتعيش في المهجر مقلدة سكان المدينة التي يسكنون بها. ومثل أي مستلب أشعر بالخوف من العودة الى ايت ويران والعيش هناك كما أني غير مستعد للتخلي عن مدينة الدارالبيضاء لأني وبسبب الغربة صرت أعشق الشيخات ويهتز بدني كلما سمعت نغما من الشاوية.
وقد كانت قضية عودتي الى أرض أجدادي ممكنة قبل سنوات حين سمعت خبرا يقول انه تم اكتشاف النفط في ضواحي أقا في ذلك الوقت قررت جمع حقائبي والتوجه الى موطني الاصلي وعزمت على حفر ابار في حقل النخيل الذي يملكه أبي واعلاني أميرا هناك يحمل اسم الشيخ بشير ال اوتشي الويراني مع انشاء جريدة بترو دولار أشغل فيها صحفيين بؤساء وأمنحهم رواتب مغرية في مشيخة ايت ويران التي انا اميرها لكن أحلامي تبخرت لما اكتشفت أن ذلك كان تلفيقا ولا أساس له من الصحة حتى ضاعت اللغة وضاعت الثروة ووصل خبرنا الى اليونسكو يا للفضيحة...