<H1 class=larger2Font dir=rtl>العقل والقلب من منظور القران الكريم
عمار سليمان
</H1>
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيِّد المرسلين، وإمام المتَّقين، وصاحب الحقِّ المبين، وعلى آله الطاهِرين وصحْبِه الغُرِّ الطيِّبين.
تميَّز الإنسانُ عن سائِر الخلائق بنعمة التعقُّل والفهْم، وحَباه الرحمن أنْ يسَّر له عقلاً يُدرِك الأمورَ ومآلَها، ويَفصِل به بين الحق والباطل، وبين الدائم (الآخِرة) والزائل (الدنيا)، فالعاقل مَن عقل فرسه للمُضِيِّ إلى جنَّةٍ عرضها السماوات والأرض، فازَ بها أهلُ العقل، وحادَ عنها أهلُ الضَّلال والجهْل.
ولمَّا كان العقل مَناطَ التكليف، وبه يتحصَّلُ الرُّقِيُّ والتشريف، كان لا بُدَّ من الاهتِمام بدِراسة آليَّات عمله، والاستِفادة من طاقته وإمكانيَّاته، والتي إلى الآن يَكتَنِفها كثيرٌ من الغُمُوض؛ وهذا لأنَّ آليَّة عمل العقْل مُعقَّدة بدرجةٍ كبيرة ومَهُولة؛ فإنَّ سرعة نقْل المعلومة من الجِهاز العصبي إلى اليد لِتتحرَّك تكون كلَمْح البصر؛ ولهذا كان الدُّخول إلى هذا المِضمار شاقًّا ومُضنيًا لكنَّه مفيد، وإنِ استَطاع الإنسان تَفعِيل عقلِه على الشكْل الذي أرادَه الله - تعالى - لا شَكَّ أنَّه سيَنال التَّمكِين والاستِخلاف في أرْض الله بكُلِّ ثقةٍ ويَقِين.
ومع كثْرة البُحوث التي درستْ آليَّات عملِ العقل وعلاقتها في الدِّماغ... إلى آخِرِه من النظريات التي لا زالتْ بين الأخْذ والردِّ بين العُلَماء، وللإسلام رأيٌ من خِلال القرآن الكريم الذي هو منبع العلم وأصلُه، وغيرُه له تابعٌ، والفرْق بينه وبين غيرِه بونٌ شاسِع، وغيرُه مُعتَمِدٌ عليه، ودونه لن تستَوِي للبشريَّة حياة هادِئة مطمئنَّة - كان لا بُدَّ من نظرةٍ إلى "كيف ينظُر القرآن إلى عقل وقلب الإنسان؟".
نظرة في كيف نظَر القرآن إلى آليَّة التعقُّل عند بني الإنسان:
يقول - تعالى -: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].
ونحن نَسِير مع سَيْرِ القرآن؛ إذ جعَل مُضغَة القلب فيها تعقُّل، فبِبَياضِها يعرف الحقّ ويعقل، وبِسَوادها يُظلِم الإنسان ويجهَل، وإنْ نظرنا إلى أنَّ القلب له دورٌ في التعقُّل والإدراك، فإنَّ لبَياضِه دورًا في نجاة الإنسان من الشَّهوات والشُّبهات، ويصل به أنْ بيَّض جماله بالطَّاعات إلى أعالي الجنَّات.
وإنَّ العقل بتَفكِيره وتَحلِيله يَصِلُ بك إلى قرارٍ معين؛ فإنَّ القلبَ هو العقل المرشِد للاختِيار من بين بَدائِل الخِيار..
وفي المثال يتَّضح البيان:
هَبْ أنَّك شرعتَ في معصية وأعددتَ لها، واتَّخذت كُلَّ الأساليب لإسعاد نفسك، وفي الوقت نفسِه جاءَك تأنيبُ الضمير، واشتغلتْ عليك النفس اللوَّامة، فأنت في مِحَكٍّ بين إسعاد الذات وجلْدها بالسِّياط، وهنا يأتي دورُ القلب وتعقُّله؛ فإنْ عَقِلَ أنَّ الإسعاد مُؤقَّت وعليه تُبنَى وَيْلات وآهات، مالَ (أي: اتَّجه) لاتِّخاذ القَرار الذي به يجلد الذات ويَكبَح جِماحَها عن الحَرام، وأمَّا إنْ تابَع هَواه وسارَ إلى اللذَّات المتقطِّعة، هنا جَهِلَ القلب وسُوِّدَ، ونُكِت به نكتةٌ سَوداء تُقلِّل فهمَه وتسلب وعيَه.
ولَمَّا رأينا ما للقلب من مكانٍ في التعقُّل والتفكير والإرشاد إلى الهدي، والسَّيْر على خُطَى الحبيب النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وجَب علينا أن نضَع بعضَ الآليَّات التي تُساعِدنا على تَبيِيض هذه المُضغَة لنَنعَم بالتعقُّل ونصلح للتدبُّر.
أمورٌ تُساعِدك على تَبييض قلبك، وتُعِينك على إسعاد نفسِك وتَنوِير عقلك:
1 - الصبر واليقين:
لأنَّ العلوم - وخاصَّة الدينيَّة منها - تحتاج إلى مجاهدةٍ، وهذه مَناطُها الصبرُ، وتَحتاج إلى مُثابَرةٍ، وهذه لا تحصل إلاَّ باستِشعار الأجْر، فإنِ استَشعَر قلبُ العبد اللذَّات التي هو مُتحصِّل عليها وتيقَّن بها، استُخلِف ونالَ التَّمكِين، فالعلمُ ليُحصِّله الإنسان يحتاج إلى صبرٍ على جهْد، ويقين للمثابر على أمره.
2 - الأذكار:
إنَّ مَن أكثَرَ من الأذكار أنعَمَ الله عليه بقلبٍ ملؤه الأفكار، أمَا رأيتَ كيف كتب "صيد الخاطر" من قبل الإمام الهُمام، والأسد المِقدام، حامي السنَّة وقامِع البدعة ابن الجوزي؛ ولهذا لما أفرَغَ على قلبه كثرةَ الاستِغفار والأذكار حَبَاه الله ما نفَع من أفكارٍ، فسارتْ بها الرُّكبان، وانتَفَع بها عددٌ كبيرٌ من الأنام، فأكثِرْ من الاستِغفار تَنل البركة في العقل، ويُرشِدك الله لما صَحَّ من النقل.
3 - الإخلاص:
إنَّ أيَّ عملٍ لا يكون أصلُه لله - تعالى - سوَّد قلبَ صاحبه، ونالَ الرِّياء من سُوَيدائِه؛ فأهلك ذاك القلب وعفن، وأصبح خَرابًا للطَّمَعِ والجَشَع، فيقل إدراكه ويعدم فهمه، وأصبح كالذين وصَفَهم الله بأنَّ لهم قلوبًا لا يَعقِلون بها، وأمَّا إنِ التَزَمَ في عمله الإخلاص عادَ عليه بالبَياض والرَّخاء، وبالبركة في الفهْم، والاستِزادة من العلْم؛ ولهذا اجعَل كلَّ عملك لله خالِصًا يُبارِك لك الله في كلِّ أمرٍ كنتَ له سائرًا.
كلمة أخيرة:
حافِظْ على بَياض قلبِك، واعلمْ أنَّ السَّعادة والعِلم والفهْم تحتاج إلى قلوبٍ بَيضاء تعلَم الحَلالَ والحَرامَ، وتَسِير على خُطَى الرحمن، وتستنُّ بسنَّة العدنان، وتنعم بما آتاها الله من فهْمٍ بجنَّة الرِّضوان.