بالقليل من التجاوز والتبسيط، يمكن تلخيص سؤال الحياة في علامتي استفهام كبيرتين، الاولى : ماذا نريد من الحياة، او ما هي اهدافنا في الحياة ؟؟ والثانية : كيف نحقق ارادتنا، ونبلغ غاياتنا واهدافنا ؟؟
الكثيرون عاشوا وماتوا دون ان يطرحوا على انفسهم سؤال الحياة، بينما طرحته النخب الواعية مبكراً، وعمدت الى الاجابة عنه عملياً وبمفردات الفعل اللازم، ومنحت حياتها المعنى او المضمون اللائق بها، والمتوخى منها·· ذلك لأن الادراك الواعي، او الوعي الذكي لشروط الحياة واسئلتها ومستلزماتها، هو المقدمة الضرورية لكيفية عيشها والتعامل الايجابي معها، وفي هذا المعنى يقول لابرويير : "اذا لم تكن ذكياً فلن تنتفع بافكار الآخرين"، فيما يقول طومسون : "اذا لم تستخدم دماغك، فلن تجد بعد قليل دماغاً تستخدمه"·
فالذكاء شرط مهم، بل حجر الزاوية في مهمة فهم النفس، ووعي الذات، ورصد المواهب والطاقات والقدرات، وقد سبق للمفكر السيكولوجي ستيفن كوفي، مؤلف كتاب "العادات السبع لاكثر الناس فعالية" ان عرّف الادراك الذاتي بانه "قدرتنا على الخروج من ذواتنا، لكي نفحص اسلوبنا في العمل، ونقف على حقيقة افكارنا ودوافعنا وخبراتنا وميولنا وعاداتنا"·· وهو الامر الذي سبقه اليه اينشتاين عندما قال : " يبدأ الانسان بالحياة، حين يعيش خارج نفسه"·
النفس او الذات البشرية، بئر في عمقها، ونهر في جريانها وسريانها، وبحر في صخبها واضطرابها وتقلبها بين مد وجزر، او بين خير وشر·· ذلك لانها مغارة المتناقضات والمتعاكسات·· فهي صيف وشتاء على سطح واحد·· ليل ونهار في مسلسل التناوب والتعاقب·· موئل ملاك وموطن شيطان في ذات الآن، وصدق الرحمن اذ قال في سورة الشمس : "ونفس وما سواها، فالهمها فجورها وتقواها، قد افلح من زكاها، وقد خاب من دساها"·
وهكذا فمن الخطأ الجسيم ان يتصور المرء انه صنيعة نفسه، ووليد رغبته، وحصيلة ارادته الخاصة، ونتاج جيناته الموروثة·· وان يتخيل انه حر تماماً في حياته، وانه مستقل في مواقفه وقراراته، وان مساحة الاختيار عنده اوسع من دائرة الاضطرار، وان حجم الدوافع المتوفرة لديه اكثر من كمية الروادع والموانع المفروضة عليه·
اوائل القرن الماضي توصلت البشرية الى علم النفس·· اكتشفت ان هذا العلم قادر على سبر الاغوار الداخلية للنفس، ومعرفة الكثير من اسرارها وخفاياها وبواطنها، ورصد نقاط القوة وعوامل الضعف فيها، ووضع المرء مباشرة امام حقيقته النفسية ودخيلته الذاتية·· الامر الذي قلب الكثير من الافكار والمعتقدات والمواضعات القديمة، وشيد على انقاضها سلسلة من الخرائط والمعادلات والمستجدات، لعل ابرزها فن ادارة الذات، وربما فن صناعتها في بعض الأحيان والاوقات·
اما فن ادارة الذات الذي مازال حديث العهد، فيعني بشكل عام قدرة المرء - اولاً - على رصد وتحديد ما لديه من مواهب وخصائص وطاقات وخبرات ونقاط قوة وتميز، ثم قدرته - ثانياً - على شحذ وتحشيد وتفعيل وتوظيف هذه الطاقات والكفاءات على طريق تحقيق الاهداف المطلوبة والغايات المنشودة، ثم قدرته - ثالثاً - على بلورة وتعيين وترتيب هذه المقاصد والاهداف بدقة، وفقاً لاولويات القدرة على تحقيقها وليس الرغبة في هذا التحقيق، نظراً لأن القدرة هي المقدمة على الرغبة في حالة التعارض بين الاثنتين·
لا احد يستطيع ادارة ذاته او قيادة نفسه بكفاءة واقتدار، دون معرفة دقيقة لموجودات هذه الذات، ومكنونات هذه النفس بدقة، وبلا مبالغة او ادعاء·· ولا احد يستطيع شحذ وتشغيل منظومة الطاقات والقدرات والامكانات اذا لم تكن موجودة في الاصل، ومتوفرة في الاساس·· ولا احد يستطيع نيل المطالب وتحقيق الغايات والطموحات الا اذا كانت ممكنة، وفي حدود القدرة الذاتية على بلوغها ووضعها موضع التحقيق والتطبيق، وبخلاف ذلك يمكن للجهد ان يتحول الى مقامرة غير محسوبة، او قفزة في الهواء غالباً ما تؤدي الى نتائج عكسية·
اما اذا اراد المرء المثابر والمصابر والعصامي ان يرفع سقف اهدافه وطموحاته فليس امامه من سبيل سوى تنمية طاقاته الذاتية، وتهيئة ظروفه الموضوعية، وتحكيم عقله في عواطفه وترتيب علاقاته الغيرية مع الآخرين، لكي يتحقق شرط التوازن والتكافؤ بين الوسائل والاهداف، او بين القدرات والتطلعات، ولو ضمن اطار التدرج والتجزئة والتقسيط، مصداقاً لقول هنري فورد : "لا يوجد شيء صعب عملياً، اذا قمت بتقسيمه الى اعمال صغيرة"·
ويبرز في هذا السياق دور الارادة، والثقة بالنفس، والشعور بالمسؤولية، والاعتماد على الذات، والتحلي بروح المبادرة في الفوز بجائزة الحياة، والنجاح في مشوار العمر، والنهوض بمهمات الترقي والتقدم، والتصدي الحازم لجيوش المصاعب والمتاعب والتحديات، والمهارة البارعة في رسم الخطط وانتقاء الخيارات وتصنيع القرارات، والاستثمار الامثل للموجودات المادية والمعنوية المتوفرة، ناهيك عن تنميتها وتطويرها واثرائها بشكل جدلي متفاعل مع الخبرات المكتسبة، ومتواكب مع المعطيات المستجدة في كل حين·
لكن حذار من الخلط بين المناقب والمثالب، او بين السجايا الحميدة والخطايا الخبيثة، فالارادة الفردية مختلفة تماماً عن الانانية، والثقة بالنفس بعيدة كل البعد عن الغرور، والاعتماد على النفس مغاير على طول الخط للتكبر والفوقية والتعالي على الآخرين، فالناس يمكن ان يتسامحوا او يتعاملوا - ولو على مضض - مع من يتقدم عليهم او يسير امامهم، ولكنهم لن يفعلوها قط مع من يترفع عنهم ويتعالى عليهم، ولهذا فان من واجب المعنيين بحسن ادارة انفسهم، ان يعملوا ما وسعهم العمل، ويجهدوا ما استطاعوا الجهد، لكي يتقدموا الصفوف، ويتبوأوا مواقع الطليعة والصدارة، ولكن عليهم ان يحذروا كل الحذر من السعي نحو الفوقية والاستعلائية والارتفاع فوق الآخرين·
وعليه، فان فن ادارة الذات لا يقتصر على رصد وتحشيد المواهب والطاقات والخبرات الخاصة او الشخصية والفردية فحسب، بل يمتد ليشمل مجمل الظروف الموضوعية والمعادلات الخارجية، اضافة الى منظومة القيم والاخلاق والعادات والجوانب الروحية والمعنوية ايضاً، نظراً لضرورة واهمية التوافق والتكامل والانسجام بين الخاص والعام، وبين الذاتي والموضوعي، وبين القدرات الجوانية والظروف والمعطيات الخارجية او البرانية·· فلا وجود في عالم اليوم لـ حي بن يقظان، او روبنسون كروزو المكتفي بذاته والمستغني عن "رأس المال الاجتماعي"، وليس في صالح المعني بادارة ذاته، الاصطدام الحاد والمباشر بمصالح الآخرين، والتصدي باسلحة التناطح والمجابهة والعناد الاعمى للظروف والنواميس والقوانين الطبيعية والاجتماعية المحيطة بالمرء·· ولعل في مأساة الملياردير المصري هشام طلعت، قاتل الفنانة اللبنانية سوزان تميم، ابلغ دليل ومثال وبرهان على ضرورات التقيد بالعوامل الاخلاقية، والتحالف مع الظروف الخارجية لكل الراغبين في ترتيب انفسهم وادارة ذواتهم بكفاءة ونجاعة واقتدار·
الكثيرون يتوهمون ان الخلاص الفردي يأتي على حساب الآخرين، ويتحقق عبر استغفالهم واستغلالهم والتشاطر عليهم، غير ان دروس الحياة واحكام الايام اثبتت ان "الزائد اخو الناقص"، وان "الطمع ضر وما نفع"، وان "القناعة كنز لا يفنى"، وان كل الذين تجبروا وتكبروا وركبوا سروج الطمع والجشع والانانية، قد خسروا فيما بعد خسراناً مبيناً، ودفعوا من ثم ثمناً فادحاً، ان لم يكن بشخوصهم وفي حياتهم، فبشخوص وحيوات اولادهم واحفادهم·· وفي هذا الصدد يقول الشاعر الفرنسي لافونتين : "يخسر المرء لفرط ما يود ان يكسب"، فيما يقول الثائر الاممي جيفارا : "الطريقة الوحيدة لانقاذ نفسك، ان تعمل على انقاذ الآخرين") حمد